خاص الهديل:
خلال بداياته الأدبية كتب الروائي الأميركي اللاتيني غابرييل غارسيا ماركيز أول رواية له بعنوان “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”.
..كل القصة التي لا تتجاوز الماية صفحة، تتحدث عن كولونيل بلغ سن التقاعد، وهو انتقل ليعيش في بلدة نائية، وقد اعتاد كل صباح أن يخرج من منزله قاصداً مركز بريد البلدة ليتفحص ما إذا كانت الدولة حولت إليه تعويض نهاية خدمته من وظيفته.
..ويبقى الكولونيل المتقاعد على هذا الحال عدة سنوات؛ ولكن الدولة لم تحول له تعويض نهاية خدمته.. وخلال آخر رحلة له إلى مركز البريد، سأل الكولونيل مدير البريد عن أخبار تعويضه؛ فأجابه الأخير ببرود “لم يصل بعد”.. فخرج الكولونيل من مركز البريد وهو يقول: هراء.. الانتظار صار مجرد هراء..
..أما ماركيز فجعل لقصته هذه عنواناً موحياً وهو: “ليس لدى الكولونيل من يكاتبه”!!.
في الواقع الراهن لمشهد انتظار التفاهم على اسم ثالث بين سليمان فرنجية الممانع وميشال معوض المعارض، يقف جبران باسيل أمام موظف مركز البريد ليسأله عن ما إذا كانت حارة حريك حولت له تعويض نهاية خدمته السياسية؛ وهو عبارة عن الموافقة على وجهة نظره باختيار فخامة الرئيس العتيد. ولكن مدير مركز البريد يجيبه من أقصى زاوية بين شفتيه: “لم يصل شيء بعد”.. ويضع باسيل كفيه على وجهه؛ ويقول لنفسه: ان انتظار التعويض الرئاسي من حزب الله أصبح نوعاً من الهراء..
..أما في الحلقة اللصيقة بباسيل فيعلقون قائلين: لم يعد لدى الصهر من يكاتبه..
إن وقائع قصة ماركيز في الكثير من تفاصيلها تنطبق على يوميات باسيل التي أصبحت منذ خروج عمه من قصر بعبدا تشبه يوميات كولونيل ماركيز الذي لم يعد لديه من يكاتبه..
إن انتظار باسيل لوصول إشارة من مركز بريد حارة حريك بخصوص تحويل تعويض رئاسي له؛ بات انتظاراً يتم على طريقة كولونيل ماركيز الذي “أدمن الانتظار المرضي”، وذلك رغم مرور الأيام والأسابيع والأشهر الطويلة على تكراره نفس تصرفه اليومي هذا..
ويريد ماركيز من خلال تصوير إصرار الكولونيل اليومي على الذهاب إلى مركز البريد ليوجه للموظف هناك ذات سؤاله الصباحي عن التحويل الذي لم/ولن يصله، – يريد ماركيز القول أن بعض الأشخاص لا يملون تكرار السؤال رغم علمهم المسبق أن الإجابة عليه تلخصها عبارة: هذا الانتظار؛ والإصرار على تكرار ذات السؤال؛ هو هراء.. هراء!!..
ومع ذلك يصر باسيل على تكرار سؤاله اليومي عن ما إذا كان تحويل تعويضه الرئاسي وصل إليه من حارة حريك.. وهو لا/ولن يمل تكرار المحاولة والإصرار، رغم أن جميع اللصيقين به يتذكرون بمناسبة ما يفعله باسيل على هذا الصعيد، عبارة كولونيل ماركيز الأخيرة: هذا الانتظار كان نوعاً من الهراء..
وهناك في الواقع ثلاثة أسئلة يصح أن يوجهها باسيل لنفسه، كنوع من الترويح عن نفسه وهو يقصد ذهاباً وإياباً كل صباح “مركز بريد حارة حريك” – إذا صح التعبير -:
السؤال الأول هو عن المستند الذي يملكه باسيل ليدعي ان لديه تعويضاً رئاسياً يستحق على حزب الله دفعه له خلال هذه الدورة الرئاسية، أو حتى خلال الدورة الرئاسية التالية(!!).
لقد أكد اللصيقون بأمين عام حزب الله غير مرة، أن الأخير لم يعد باسيل بأنه سيدعم ترشيحه للرئاسة، على غرار ما فعله مع عمه الرئيس ميشال عون، بل هناك تسريبات من داخل أروقة حزب الله تؤكد أن نصر الله كما نبيه بري، يعتبران أن عليهما واجباً أخلاقياً تجاه فرنجية بخصوص دعم حظوظ وصوله لرئاسة الجمهورية.
ويلاحظ هنا أن نوع الدعم الذي يقدمه نصر الله لفرنجية لنيل الرئاسة يختلف عن نوع الدعم الذي قدمه لميشال عون لإيصاله لبعبدا؛ فالأخير قدم له نصر الله “الوعد الصادق بإيصاله للرئاسة”. وهو مصطلح يستخدمه نصر الله، ويستخدمه حزب الله، للدلالة على أن أمين عام الحزب يضع كل رصيده الشخصي وراء هدف معين؛ والواقع أن نصر الله لم يقدم لفرنجية “الوعد الصادق” بل قدم له “الوعد السياسي”؛ ولذلك يقال في أوساط الحزب أنه طالما فرنجية قرر أن لديه حظوظاً سياسية للفوز فإن حارة حريك ستدعم ترشيحه.. فيما جبران باسيل لم يقدم له نصر الله، لا “الوعد الصادق” ولا “الوعد السياسي” بإيصاله لرئاسة الجمهورية؛ وكل ما هو مطروح من قبل الحزب هو التفاوض معه (أي مع باسيل) على كيفية إيصال فرنجية للرئاسة، وضمن أية شروط يطالب بها الصهر ..
السؤال الثاني هو عن السبب الذي يحتم على حزب الله أن يفضل باسيل على فرنجية أو عن السبب الذي يضطر حزب الله لأن يسجن نفسه ضمن معادلة إما باسيل أو فرنجية؟؟..
بات من المفترض أن يطرح باسيل على نفسه هذه الأسئلة؛ خاصة بعد أن تكشفت خبايا مناوراته التي تقصدت طوال الأسابيع الماضية، طرح أسماء أشخاص من قبله لرئاسة الجمهورية، ولكن سرعان ما يتخلى عنهم حينما يشعر أنه سيتم تبنيهم؛ ذلك أن سبب طرحهم من قبل باسيل لم يكن من أجل التفاوض عليهم، بل من أجل حرقهم كمقدمة لإعادة طرح اسمه كرئيس بديل عن فرنجية ومعوض، وكمرشح ثالث بديل عن قائد الجيش، وكمرشح دولي يبدأ ترشيحه إقليمياً بعد تحقق توقعه بإزالة العقوبات الأميركية مع بدايات صيف هذا العام.
السؤال الثالث يتصل بحقيقة يجب أن يعترف بها باسيل، كونه يدركها؛ وهي أن الزجاج المتشظي يصعب إعادة تلحيم أجزائه..
..صحيح أن باسيل نجح بفضل غير سبب، بإعادة إنتاج نفسه خلال إنتخابات العام الماضي النيابية؛ ولكن الصحيح أيضاً أن الإنتخابات أعادته انتخابياً ضمن ظروف ظرفية معينة؛ ولكن هذه الانتخابات لم/ولن تستطع أن تعيد تلحيم أجزاء الزحاج المتشظي..