خاص الهديل….
بقلم: ناصر شرارة
لا شيء يضمن أن تتحول جلسة الانتخابات الرئاسية يوم ٩ الشهر الجاري إلى جلسة انتخاب رئيس.. والأسباب كثيرة بل تكاد لا تحصى وكلها تندرج تحت عنوان رئيسي، وهو أن التوافق الداخلي المطلوب والذي يسمح بانتخاب فخامة الرئيس لا يزال غير موجود؛ أضف أن كلمة السر الخارجية لم تتكشف بعد على نحو جلي وواضح وكلي؛ وعليه يصبح المتوقع هو أن يحدث عقد جلسة انتخابات رئاسية وليس جلسة انتخاب رئيس يوم ٩ يناير الحالي وذلك رغم أجواء التفاؤل بحصول الانتخاب الذي يشيعه الرئيس نبيه بري.
الإشكالية المطروحة بمناسبة انتخاب الرئيس العتيد هو أن لبنان تغير كثيراً عما كان عليه قبل خروج نظام الأسد من معادلة حكم سورية وتوازنات المشرق العربي.
لفترة نحو خمسين عاماً كان نظام آل الأسد يتصف بأنه نظام بخلفيات متعددة؛ فهو النظام البعثي والعلماني والعلوي بنفس الوقت؛ وهو النظام الممانع من جهة والذي تتمسك إسرائيل بعدم إسقاطه من جهة ثانية؛ وأيضاً هو النظام الذي أخذ في الآونة الأخيرة يقترب من الرياض وينظر لواشنطن، وذلك في نفس الوقت الذي ينظر فيه إليه على أنه حليف استراتيجي لموسكو وطهران؛ أضف لكل ذلك وقبل ذلك أن النظام الذي حكم لبنان بشكل مباشر منذ ١٩٨٩ حتى العام ٢٠٠٥ والذي ظل هناك همس دولي حتى بعد العام ٢٠١١ عن احتمال عودته ليحكم لبنان فيما لو توفرت ظروف معينة!!.
اليوم لم يعد يوجد إلى جوار لبنان من جهة حدوده الشرقية نظام البعث و”العلويين” (الخ..)، وهذا التغير لا يجب أن يعني فقط للبنانيين أن جار لبنان الكبير تغير، بل يجب أن يعني لهم أيضاً أن التوازنات التي كان لبنان يتفاعل ضمنها وفي إطارها وتحت سقفها تغيرت أيضاً، وهذه الدينامية الجديدة التي حصلت تقود إلى نتيجة تفيد بأن لبنان أيضاً تغير بالنظر لمجرد أن التوازنات في منطقته تغيرت بفعل انهيار نظام الحكم في سورية التي تمثل سنتر التوازنات في المشرق.
إن فخامة الرئيس العتيد سوف يجلس على كرسي في قصر بعبدا لا تشبه تلك التي جلس عليها الرئيس الذي سبقه ميشال عون ولا الأسبق ميشال سليمان ولا إميل لحود؛ حيث أن قصر بعبدا دارت فيه دورة الأحداث ما أدى إلى تغير خارطة التوازنات التي كان يحفظها عن ظهر قلب؛ فسورية لم تعد “أمة عربية واحدة”، بل أصبحت “أمة إسلامية واحدة” من إندونيسيا حتى طرابلس الفيحاء؛ وإسرائيل لم تعد وراء حدودها وداخل قفص انسحابها الأحادي الجانب عام ٢٠٠٠ بل أصبحت خارج حدودها داخل لبنان، وخرجت من سجن ٢٠٠٠ لتدخل فرض تفسيرها لل ١٧٠١ على لبنان.
أبعد من ذلك فإن أول ما سوف يلحظه فخامة الرئيس العتيد هو ما حدث ويحدث حول لبنان من متغيرات تؤكد كلها أن منظومات بكاملها انهارت وتنهار، ليحل مكانها منظومات تبدو أنها قوية ولكنها بالعمق لا تدعو للشعور بالاستقرار..
.. وبالإضافة إلى سورية التي وصل لحكمها أقصى اليمين الإسلامي؛ فإنه على حدود لبنان الجنوبية يوجد أيضاً بؤرة عدم استقرار عنوانها حكم أقصى اليمين اليهودي في إسرائيل!!. وأخطر ما يوحي به هذا التطور هو أنه لا يمكن للبنان توقع كيف سيذهب أقصى اليمين الإسرائيلي في المرحلة القادمة التي يوجد فيها أيضاً في أميركا رئيس لا يمكن توقع ما قد يفعله؛ سيما وأن ترامب شكل إدارته من فريق متطرف في دعمه ليس لوجود وأمن إسرائيل فقط، بل لمشاريع إسرائيل المتطرفة..
بقي هناك جهة حدودية ثالثة تحيط بلبنان وهي البحر؛ أي الضفة الأوروبية الجديدة التي بوابتها قبرص وأيضاً سلسلة موانئ المتوسط. ورغم الأبعاد والآفاق التي تحملها الحدود البحرية للبنان؛ إلا أنه منذ ٧ أكتوبر العام ٢٠٢٣ تحولت حدود لبنان البحرية إلى بركة متوسطية مملؤة بحاملات الطائرات الأميركية المستنفرة تحت عنوان ظاهر هو منع توسع حرب غزة لحرب إقليمية، ولكن تبين خلال العام الماضي أن احتلال أميركا عسكرياً للبحر في المتوسط هدفه حماية حروب إسرائيل الإقليمية ضد لبنان وضد سورية، وغداً أغلب الظن ضد إيران.
هذه الصورة تظهر أن لبنان تحول لبلد يوجد حوله حصار ايديولوجي ديني بري وعسكري بحري: أقصى اليمين اليهودي الديني من الجنوب والإسلامي من الشرق وحاملات الطائرات التي تبين أنها ليست صديقة تجوب على صفحة حدوده البحرية.
وضمن هذه الظروف يتم الترويج لفكرة أن أول خطوة لفك الحصار عن لبنان تكون بانتخاب فخامة الرئيس اللبناني الذي هو بنفس الوقت الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط.
.. بالمبدأ صحيح أن انتخاب فخامة الرئيس هو واجب دستوري؛ وهو أيضاً عنوان لوجود دولة وحياة سياسية، الخ.. ولكن عملية انتخاب الرئيس هذه المرة يجب أن تترافق مع عملية تغيير اتجاه الحكم في لبنان من فوق إلى تحت؛ كل الذين حولنا تغيروا؛ فهل يبقى لبنان يهتدي بساعة التوقيت القديم؟!.. ويجدر حسم موضوع أي تغيير يحب أن يجريه لبنان على بنيته حتى يستطيع التكيف مع الزلزال الذي ضرب الواقع الجيوسياسي الذي يعيش بين ظهرانيه؟؟.. لعل هذا السؤال سيكون أهم الأسئلة التي سيحملها معه بعد انتخابه إلى قصر بعبدا الرئيس اللبناني المسيحي الوحيد في الشرق الأوسط؛ وعليه فإن ما يتوقعه لبنان من فخامة الرئيس العتيد، وأيضاً ما تتوقعه المنطقة التي تغيرت منه هو أن تكون أول خطواته الدعوة إلى حوار وطني لبناني يتم خلاله رسم خارطة طريق نحو الدولة الجديدة في لبنان الجديد..
خلاصة القول أن لبنان لا يمكنه إدارة ظهره للمتغيرات الجارية في محيطه؛ والمطلوب منه أن يتحسبها حتى لا يصطدم بأنه بمواجهتها.