بعد فترة طويلة من تصريف الاعمال جاوزت السنتين، شهد لبنان تشكيل حكومة جديدة برئاسة القاضي نواف سلام، ضمّت 24 وزيرًا، اعتمدت بحسب المعايير المعلنة على الكفاءات غير الحزبية واستبعدت السياسيين التقليديين. يأتي هذا التطور في وقت يواجه فيه لبنان تحديات اقتصادية وأمنية جسيمة، مما يطرح تساؤلات حول قدرة هذه الحكومة على تحقيق الإصلاحات المطلوبة واستعادة ثقة الشعب والمجتمع الدولي.
منذ الإعلان عن تشكيل الحكومة، تعهد الرئيس نواف سلام بإعادة الثقة إلى عمل الدولة اللبنانية بمختلف مؤسساتها الدستورية والقضائية والامنية والادارية والعمل على تنفيذ إصلاحات جذرية. هذا التعهد يضع الحكومة أمام مسؤوليات كبيرة، خاصة في ظل الأزمات المتفاقمة التي يعاني منها المواطن اللبناني، بدءًا من الانهيار الاقتصادي وصولًا إلى التوترات الأمنية المستمرة على جانبيّ الحدود الجنوبية من جهةٍ أولى والشرقية من جهةٍ أخرى. وعليه ينطلق عمل الحكومة الجديدة في ظلّ وضع أمني متوترّ على الحدود واقتصادي بالغ السوء داخلياً، مع انخفاض القدرة الشرائية للبنانيين بفعل تدني قيمة الليرة اللبنانية منذ العام ٢٠١٩ وحتى اليوم دون تحسين حقيقي للأجور في القطاعَين العام والخاص وارتفاع معدلات البطالة والفقر، مما يستدعي تنفيذ إصلاحات عاجلة تشمل بناء سلطة قضائية مستقلة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي بما يسمح اعادة الودائع، وضبط المالية العامة يما يخفّف مزاريب الهدر، وتعزيز الشفافية على المستويات كافة وخاصة على مستوى الموازنة العامة التي يأمل اللبنانيون أن لا تتضمّن أرقاماً وهمية تخفي حالة العجز عبر اعتماد أسعار صرف متفاوتة وإخفاء ديون الدولة وفق ما درجت عليه الحكومات في السنوات السابقة.
تزامنًا مع تشكيل الحكومة، شهدت البلاد تصعيدًا أمنيًا مع غارات إسرائيلية على مناطق في شرق وجنوب لبنان، وسط تحليق يكاد لا ينقطع للطائرات الحربية والمسيرات الاسرائيلية فوق العاصمة بيروت ومختلف المناطق اللبنانية، ما يضيف تحديات إضافية أمام الحكومة الجديدة التي تجد نفسها مطالبة بموقف حازم لحماية السيادة الوطنية خاصة بعد التملّص الاسرائيلي للمرة الثانية من انجاز الانسحاب من الاراضي اللبنانية ضمن المهل المتفّق عليها.
الإصلاحات السياسية تمثل بدورها تحديًا جوهريًا، إذ يُنتظر من الحكومة تعزيز دور المؤسسات الدستورية، وتفعيل مبدأ فصل السلطات، ومكافحة الفساد المستشري في مختلف القطاعات. هذه الخطوات ضرورية لاستعادة ثقة المواطن اللبناني في دولته، كما أنها تشكل شرطًا أساسيًا للحصول على الدعم الدولي. الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، تراقب أداء الحكومة عن كثب، وتنتظر منها تنفيذ إصلاحات حقيقية لضمان استمرار المساعدات المالية. في هذا السياق، تأتي تصريحات نائبة المبعوث الأميركي للشرق الاوسط، مورغان أورتاغوس، التي اعتبرت أن حزب الله “هُزم عسكريًا وانتهى عهد ترهيبه في لبنان والعالم”، مما يشير إلى ضغوط دولية متزايدة على الحكومة لاتخاذ موقف واضح من دور الحزب في السياسة اللبنانية، والامتحان الأول سيكون كيفية تعامل البيان الوزاري مع هذا الواقع المستجد، والتوفيق بين المتطلبات الدولية ومقتضيات المصلحة الوطنية خاصة في ضوء وجود بيئة تشعر انها مجروحة بحسب تعبير الرئيس سلام.
إلى جانب التحديات الداخلية، تواجه الحكومة مسؤولية إعادة بناء العلاقات الايجابية مع الدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية وباقي دول الخليج العربي، التي علّقت مساعداتها للبنان طيلة عهد الرئيس السابق ميشال عون الذي شهد اعتماد سياسات أثارت استياءها. ومع انطلاق عهد الرئيس العماد جوزاف عون والترحيب الكبير الذي يحظى به عربياً ودولياً، فإن تعزيز علاقات لبنان الخارجية مع الدول الشقيقة والصديقة يُعد ضروريًا لدعم الاقتصاد اللبناني واستقطاب الاستثمارات، وهو ما يتطلب من الحكومة اتخاذ خطوات جدية لضمان عدم استخدام الأراضي اللبنانية كمنصة لتهديد أمن هذه الدول.
في ظل هذه التحديات، يُطرح السؤال حول قدرة حكومة الرئيس نواف سلام على تحقيق التوازن بين الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية. هل ستتمكن من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة واستعادة ثقة المواطن اللبناني والمجتمع الدولي؟ هذا ما ستكشفه الأيام والأسابيع المقبلة، حيث سيكون الأداء الحكومي تحت المجهر، وستكون النتائج هي المعيار الأساسي للحكم على نجاح هذه الحكومة أو فشلها في تحقيق التغيير المنشود. في بلد اعتاد مواطنوه على خيبات الأمل السياسية، يبقى الأمل معقودًا على أن تشكل هذه الحكومة بداية مسار جديد يعيد للبنان استقراره ومكانته في المنطقة والعالم.