موقف لحظة:
الفرصة الأخيرة:
قطار التأليف بين قوة الدفع السعودية والفرملة المحلية
المصدر: جريدة اللواء
مرّ أكثر من أسبوعَين على تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة اللبنانية، ومع ذلك لا يزال قطار التشكيل يسير فوق أرض وعرة مليئة بالعوائق والألغام. الرئيس سلام، القادم من خارج المشهد السياسي التقليدي، إختار أن يتمسك «بالكتاب» أي الدستور كإطار وحيد لتشكيل حكومته، في مواجهة منظومة سياسية اعتادت على تقاسم السلطة وفق نموذج المحاصصة الطائفية والحزبية والمناطقية. هذا التمسّك بالدستور وضعه في مواجهة مباشرة مع تلك المنظومة التي ترى في توجّهه تهديداً لقواعد اللعبة التي إعتادت عليها منذ عقود.
احدى أبرز العقبات التي تواجه مهمة الرئيس المكلّف، هي التمثيل الشيعي والمداورة في وزارة المالية وتسمية الوزراء الشيعة، حيث يصرّ الثنائي الشيعي على تسمية جميع الوزراء الشيعة الخمسة وعلى التمسّك بوزارة المالية. وفي المقابل، تطالب القوى والاحزاب السنية والمسيحية بما تسميه “وحدة المعايير”، واذا كانت هذه المطالبة تظهر وكأنها دعوة للرئيس المكلّف الى اعتماد ذات النهج بين جميع الطوائف والاحزاب، الاّ أنها في العمق تعكس مخاوف يتشارك فيها الفرقاء السياسيّون كافة من خسارة بعض المكاسب التي اعتادوا على تحقيقها في ظلّ التوازنات السياسية الراهنة.
ووسط هذه المواقف المتصلبة، يصطدم طموح نواف سلام بإرساء قواعد جديدة أكثر شفافية وأشدّ التصاقاً بالدستور منه بالاعراف السياسية بموازين القوى في المجلس النيابي والتي تتطلّب منه مراعاتها اذا كان يُريد أن تحظى تشكيلته الحكومية بالثقة النيابية التي يحتاجها وان كان غير مقتنع بها، وهي بدورها تحتاجه حتى لا يخسر لبنان الدعم العربي والدولي، الا أنه يبدو أنها بدورها، حتى ضمن الاغلبية الواسعة التيّ سمّته، لم تعُد مقتنعة به بعد أن لمست صلابة موقفه التي تُهدّد مكتسباتها التي تسعى للحفاظ عليها وحتى تعزيزها.
على الجانب الآخر، تكتسب مهمة الرئيس سلام زخماً دولياً وعربياً، خاصة في ظل النجاح الباهر للدبلوماسية السعودية في إعادة رسم معالم دور بارز لها في لبنان عبر انهاء الفراغ الرئاسي وانتخاب الرئيس جوزاف عون في التاسع من الجاري. ومع تكليف الرئيس سلام، وضعت المملكة معايير واضحة لدعم أي حكومة جديدة: أن تكون مستقلة وقادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، وأن تلتزم بتطبيق الطائف والقرارات الدولية ومنها اتفاق وقف اطلاق النار، وأن تبسط الدولة اللبنانية سلطتها على كافة الاراضي اللبنانية. وكان لوزير الخارجية السعودية الامير فيصل بن فرحان زيارة استثنائية الى لبنان في الثالث والعشرين من الجاري، هي الاولى على هذا المستوى الرفيع منذ اكثر من ١٥ عاماً، وشهدت لقاءات سياسية بارزة شارك فيها الامير يزيد بن محمد الفرحان المكلّف بالملف اللبناني في الخارجية السعودية، الى جانب سفير خادم الحرمَين الشريفَين في لبنان الدكتور وليد بخاري.
هذا الزخم الذي حملته الزيارة السعودية الى لبنان، إلى جانب الدعم الدولي، والاحتضان الشعبي الواسع للعهد الجديد، تُشكّل رافعة معنوية كبيرة للرئيس المكلّف، لكنها تضعه أيضاً أمام اختبار صعب، حيث تُراقب الأطراف العربية والدولية مدى قدرته على تجاوز العراقيل الداخلية وتشكيل حكومة دون تأخير تلبي تطلعّات الشعب اللبناني والمجتمعَين العربي والدولي في آنٍ معاً.
فعلى الرغم من كل الدعم الدولي والعربي لمهمّة الرئيس سلام، الا أن «فكفكة» تعقيدات المشهد الداخلي تبقى تحدياً أساسياً عليه أن يتعامل معه بحكمةٍ دون أحكام مسبقة وبمرونةٍ دون تنازل وحزمٍ دون تفرّد. نواف سلام يبدو وكأنه يحاول ضخّ روح الدستور في جسد الممارسة السياسية الهزيل والمهترئ والذي أدمن طيلة عقود على «مسكّنات» المحاصصة والمساومة والزبائنية، ما أغرق مسار التشكيل بسيلٍ من المطالب السياسية والحزبية التي تفضّل بوضوح الحفاظ على المكتسبات الطائفية ولو أدى ذلك الى استمرار الانهيار ومنع المباشرة بورشة النهوض بلبنان.
قد تكون هذه الفرصة الأخيرة لإحداث تغيير جديّ يحتاجه لبنان لاعادة بناء الدولة واعادة اعمار ما دمرّه العدو الاسرائيلي واصلاح ما أفسدته الحكومات السابقة، فإما أن ينجح الرئيس نواف سلام سريعاً في كسر نموذج المحاصصة بكلّ أوجهها السياسية والحزبية والطائفية والمناطقية، ويُعزّز الثقة التي تُحيط بالعهد الجديد عبر حكومة جديرة وقادرة بمعايير موحّدة وبأسماء بارزة وموثوقة، تحظى بثقة الداخل والخارج، أو أن تتحوّل هذه المحاولة إلى فصل جديد من فصول الإحباط السياسي والى استراحة قصيرة في مسار طويل ومستمرّ من الانهيار وتفويت الفرص.