قراءة الباحث والروائي الدكتور عمر سعيد في لوحة الرسام اللبناني شوقي دلال للخريف في سهل عكار لبنان
..
خريف سهل عكّار في لوحة شوقي دلال
بقلم الدكتور عمر سعيد
مائيّة جديدة للمبدع شوقي دلال؛ المفتون بألوان الطّبيعة كلّها من خريفها إلى صيفها، والّتي لطالما أرجع أبوّتها للأصفر، وهذا ما علمته منه في حديث مباشر معه في واحد من لقاءاتنا.
بالنّسبة لي شوقي دلال مبدع مقنع بكافّة ألوانه. وعلى مدار الفصول كلّها، غير أنّ عوالم هذا التّشكيلي الّتي يعكسها من خلال عينيه تستفزّني إلى درجة الإبهار.
فالأصفر في هذا العمل يبشّر بالحياة، على الرّغم من أنّه عَنوَنَ عمله بـ:”الخريف في سهل عكّار”.
لا يكلّ دلال عن مطاردة الأصفر، فنراه يقفز من خريف البساتين إلى صحارى الرّمال، فمصابيح المدن، وشمس الكون.
ذكّرتني فلسفته تجاه الأصفر في هذه اللّوحة بالإله آمون المصري، وبيوسف بن يعقوب، وسنينه العجاف وسنابله السّمان، وأثارت فيّ دفء البيادر، وأمسها يوم كنّا صغارًا نتسابق للقفز برؤوسنا إلى داخل عرمة التّبن والعُور.
يمنحنا الأصفر في خريف سهل عكّار شعوراً بالدّفء، يذكّرني بدفاتر الرّسم في المرحلة الإبتدائيّة، أيّام كنّا نأتي على الأقلام الصّفراء في مجموعة ألواننا قبل سواها، دون أن نعيَ أنّ علاقتنا كأطفال باللّون الأصفر علاقة فطرة.
كنّا نرسم حقولًا نضجت محاصيلها، دون أن نحصدها، لأنّنا ما كنّ نعي حينها أبجديّة هذا اللّون كما علمنيها شوقي دلال.
ومنه فهمت لمَ كانت أمهاتنا يغطين وجه الطّفل بمنديل أصفر إذا أصيب بصفيرة، فالأصفر أسّ الحياة
لم يجعل دلال السّهل في لوحته مستقيمًا، كما توحي إلينا تسميته، بل جعله منحنيًا، متلّلاً ومهضّباّ في أكثر من مكان.
قد يكون السّهل الحقيقي المقصود في هذه اللّوحة هو هكذا. لكنّني أتحدّث هنا عن سهل شوقي دلال في جغرافيا دواخلي، وليس في جغرافيا موقعه شمال لبنان.
جعلته هذه الانحناءات والتّعرّجات خريفيًّا، يوقظ في المتأمّل تقلّبات طقس هذا الفصل، ومزاجيّته المحيّرة؛ فتنتابني حيرة مبرّرة أثناء تأمّلي لهذا العمل.
أفأركّز في أصفره، أم في أخضره المائل إلى الزّرقة؟ أم في تقطيعاتها الّتي انحصرت بين المربّع والمستطيل، وغابت عنها الدّائرة على الرّغم من أنّ الأصفر هو أكثر الألوان احتكارًا للدّائرة بشمسه ونجومه، وتينه، وبرتقاله، وليمونه، وتفّاحه، درّاقه وخوخه، وشمّامه، ونقده الذّهبي؟
لم يأتِ الأصفر في هذه اللّوحة واحدًا في كافّة حقولها، بل نرى أنّ لكلّ حقلٍ أصفره الخاص، الّذي استلّه من نهر الألوان المتفجّر من عين المشاهد في أسفل اللّوحة إلى وسطها.
حتّى الأزرق والأخضر فيها، أتيا بإيحاء من الأصفر.إنّما لست أدري لِمَ تلاطمت الصّفرة أمواجًا في هذا العمل؛ الّذي علا موجه وأزبد في عمقها الأعلى، دون أن يوحي لي بعلاقة الأرض بالسّماء؟
لا بل إنّ هذا العمل يكاد يؤكّد للمشاهد فضل الأرض على السّماء، ويجعلها تقرّ أنّ الحياة تبدأ بها وتنتهي بها، وأنّ الأصفر هو الحدّ الفاصل بين الولادة والموت.
إنّها لوحة طفوليّة بامتياز، لَهَا فيها شوقي دلال كأيّام طفولته الخوالي. طفوليّة بألوانها، بتقلّباتها، بخطوطها. طفوليّة بشكل تجاوزي. فليس من السّهل لأيّ مبدع أن يطلق طفله، ليلهو بالألوان باحترافيّة؛ تجعل العمل يهمل صعوبته الإبداعية في عين المتذوّق، فيظنّه سهلًا إلى درجة أنّ بإمكانه إنجازه.
هناك في اللّا وعي، حيث يقيم رقيبنا الّذي لا يكلّ ولا يملّ من التّفاوض والمساومات، صوت يخبرني أنّ الجمال البسيط، من أصعب أنواع الجمال الّذي نسعى إليه.
كما إن قراءة هذا العمل وبرأيي، تعدّ من أصعب القراءات الّتي يمكن أن يخوضها المتذوّق.
فليس من اليسير أن تدخل فضاءً لونيًّا تداخلت فيه درجات اللّون، وتلاشت فيه التّفاصيل حدّ الدّهشة الّتي نثرها دلال بريشته فوق هذه المساحة الصّغيرة، وليس من الميسّر للمتذوّق أن يتمكنّ من التّقافز في تلك البراري اللّونيّة كما فعل دلال بعفوية لن تتكرّر.
أخيراً، كانت أمّي تشتغل حصر قشّ، وكانت تاتي بالقشّ (حلفة وبوط) من مستنقعات عمّيق، وحدها كفّ أمّي المتّصلة بروحها كانت تعرف نوعيّة الحلفة اللّازمة لكلّ حصيرة، لأنّها كانت تشتغلها لتطعم أطفالها.
هكذا هو شوقي دلال في حصيرته الجماليّة هذه. أمٌّ لونيّة تغذّي طفلها بفطرة، تعرف مكان وزمان خريف سهل عكّار اللّوني.
*الدكتور عمريعيد، باحث وناقد وروائي واستاذ جامعي لبنان