خاص الهديل. …
بقلم: ناصر شرارة
يثبت المشهد الذي جرى في مجلس النواب أمس أن الأحزاب السياسية؛ أو أحزاب الطوائف في لبنان ليس لديها إرادة التغيير؛ لسبب بسيط وهو أن “التغيير يؤدي إلى تغييرها”؛ ولذلك فإن أحداً لا يجب أن يتوقع ان تضحي أحزاب الطوائف بنفسها من أجل أي شيء، وحتى لو كان هذا الشيء هو خلاص البلد وإصلاح حاله..
هذا الواقع يجعل العهد الرئاسي الحكومة أمام ثلاثة سيناريوهات واضحة:
إما إدارة ستاتيكو جمهورية أحزاب الطوائف؛ أي التسليم بأنه ليس بالإمكان أحسن مما هو موجود.
.. وإما إدارة أزمة البلد مع أحزاب الطوائف؛ أي القبول بأنه بالإمكان تحسين ما هو موجود تحت سقف ما تقبل به أحزاب الطوائف من تحسينات؛ وهي تحسينات لن تكون بطبيعة الحال كافية للقول بأن البلد شهد نقلة إصلاحية نوعية.
… وإما الذهاب للسيناريو الثالث وهو إدارة صراع مع أحزاب الطوائف من أجل إرغامها على التسليم بأن صلاحية مفاعيل سياساتها المعطلة للاصلاح انتهت؛ وعليها إما أن تغير نفسها من داخلها حتى تتكيف مع العصر الجديد، أو أن تتغير بفعل رياح لبنانية جديدة تضربها من خارجها.
يقول ميكافيلي هناك مفهوم تقليدي للصراع يصفه بأنه يؤدي إلى عدم الاستقرار؛ ولكن هذا التوصيف ليس دقيقاً في كل حالاته؛ ذلك أن الصراع بمفهومه غير التقليدي يؤدي إلى تكتيل بنى اجتماعية جديدة تقوم بمهمة تغيير السلطة المتحكمة.. ولكن ميكافيلي يضع شرطين إثنين أساسيين يضمنان أن لا يؤدي الصراع إلى عدم استقرار بل إلى تغيير إيجابي لصالح تمكين الدولة؛ وهما أولاً أن تحافظ الدولة على أن يجري هذا الصراع تحت سقف الدستور من جهة، وتحت سقف القانون من جهة ثانية.. أما الشرط الثاني فهو أن تحسن الدولة إدارة الصراع.
إذن مشهد مجلس النواب أمس الذي اختلفت أحزاب الطوائف فيه على إدارة نقاش إصلاحي يؤدي لإصلاح قانون الانتخاب؛ حيث تمترس كل طرف وراء مصلحته داخل طائفته، وليس كما يشاع وراء مصلحة طائفته؛ يؤكد – أي هذا المشهد – ما هو مؤكد أصلاً؛ وهو أن التغيير يحتاج إلى: أولاً- حسن إدارة الصراع وليس حسن تجنب الصراع؛ ثانياً- أن يتم الحفاظ على إبقاء هذا الصراع يتفاعل ضمن ما يقوله الدستور وما ينص عليه القانون؛ لأن هذين الشرطين يضمنان أن الصراع سيؤدي إلى تغيير وليس إلى فوضى وهز الاستقرار؛ ثالثاً- أن تتغير ذهنية أن ٩٩ بالمئة من التغيير هي بيد الخارج؛ لأن الصحيح هو أن ٩٩ بالمئة من التغيير هي بيد الداخل، ولكن حينما تغيب الإرادة الداخلية لفعل التغيير يصبح الداخل له مصلحة بالاتكال على الخارج بنسبة ٩٩ بالمئة لإنجاز تغيير أو تغييرات بالقطعة أو ترقيعية.
لا يغيب عن بال هذه الأطروحة الداعية لإدارة صراع تحت سقفي القانون والدستور مع أحزاب الطوائف، أن هناك ثقافة نمطية عامة في لبنان تؤمن عن وعي ومن خلال اللاوعي بأن لا تغيير مهما كان حجمه من دون إرادة خارجية، وأن لا استقرار لو فوق زاروب من دون قرار خارجي، الخ..
هذا التفكير صحيح طالما أن الداخل يعتقد ذلك، وليس لأن الخارج يريد ذلك.. وهناك مثل عملي كبير حدث منذ أسابيع فقط، تشرح وقائعه كيف أن الخارج يلتحق بالداخل ويتبعه مضطراً، وذلك عندما يتخذ الداخل قراره الاقتحامي، وليس العكس.
يقول وزير خارجية العراق في شرحه لأسرار كيف سقط النظام في سورية أن الخطة الدولية الأميركية الروسية التركية كانت تقضي بأن يدخل أحمد الشرع إلى حلب فقط حتى يتم ممارسة ضغط عملي على الأسد كي يقبل بالجلوس مع المعارضة وتركيا.. ولكن ما حدث هو أن الشرع تقدم إلى دمشق بقرار ذاتي من عندياته، ومن خارج خطة الخارج الدولية؛ ولكن الأخيرين الدوليين اضطروا أن يلحقوا به وأن يتعاملوا مع الأمر الواقع الذي صنعه الداخل السوري.. وداخل المعارضة السورية يقولون اليوم أن أهمية الشرع واستحقاقه لزعامته مصدرها المسافة التي قطعها من حلب حتى دمشق لأنها كانت بقرار منه؛ وليس المسافة التي قطعها من ادلب إلى حلب التي كانت بقرار دولي..
طبعاً هناك فرق جوهري وكبير بين وضعي لبنان وسورية وبين الأطراف اللبنانية كلها وبين الأطراف السورية؛ كما أن خلفيات الأزمة اللبنانية مختلفة عن خلفيات الأزمة السورية؛ وشرعية الحكم في لبنان دستورية وفي سورية ثورية بحسب التعبير القانوني؛ ولكن هناك أمراً واحداً قد يكون ممكناً أن يتمعن به لبنان انطلاقاً مما حدث في سورية، وهو أن الداخل في لبنان عليه الثقة بنفسه بأنه يستطيع أن يشق لنفسه وبنفسه طريقه الإصلاحي؛ والخارج حينها سيغير وظيفته من مجرد أداة ضغط لفرض إصلاحات في لبنان بشروط مكلفة ومقيدة سياسياً أحياناً؛ إلى مؤيد لمسار الإصلاح الداخلي وملتحق به وبشروط أقل..
الفكرة الأساسية هنا أن الإصلاح هو شأن ذاتي مهما ظهر للبعض أنه صدى لقرار دولي؛ وعليه فإن المطلوب أولاً هو خلق الكتلة الشعبية التاريخية المؤمنة بأن عليها خوض معركة الإصلاح؛ والمطلوب ثانياً أن تخاض معركة الإصلاح وفق خطة ممرحلة؛ أي الانتقال من عنوان إصلاحي بنيوي إلى عنوان ثان إصلاحي بنيوي، الخ.. والمطلوب ثالثاً أن لا تخجل الحكومة ولا العهد من أنهما في معركة إصلاح وليسا في نزهة إصلاح أو إصلاح بالتراضي..
القاعدة الشعبية الطبيعية لمعركة الاصلاح هي الطبقة الوسطى؛ ولكن هذه الطبقة تعاني نتيجة سياسات اقتصادية رسمية متتالية من أزمة عدم قدرة على التحرك باتجاه مهمة ضخمة؛ وعليه فإن هدف إعادة دعم تشكل الطبقة الوسطى يجب أن يكون من أولويات العهد والحكومة؛ وبالتوازي مع ذلك يجدر التنبه إلى أن مهمة إصلاح حال النقابات وتحريرها من سجن أحزاب الطوائف هي أولوية للعهد والحكومة، لأن النقابات هي إحدى البنى الاجتماعية ذات المصلحة بنقل البلد إلى مرحلة الإصلاح..
وما يجدر إدراكه هو أنه لا تغيير ولا إصلاح من دون أن يكون هناك بنى اجتماعية تنهض به.. الإصلاح ليس حكومة كفوءة رغم أهمية ذلك، وليس قرار بتغيير إداري رغم أهمية ذلك، بل هو فعل شعبي منظم يتحرك ضمن الدستور وتحت سقف القانون؛ ما يؤدي إلى انتاج مسار حركة إصلاح مستقرة ومنتجة وجدية.
ربما كان المطلوب ليس تغيير المفاهيم بل تغيير الذهنية بخصوص كيف يكون المسار لإنجاز الاصلاح.. الكلمة السحرية هنا هي أن ٩٩ بالمئة من معركة الإصلاح موجودة في الداخل؛ والمدخل لاكتشاف هذه الثروة الوطنية هو حسن إدارة صراع داخلي تحت سقفي الدستور والقانون عملاً بوصية ميكافيلي؛ وأيضاً التمرحل بإنجاز عناوين الإصلاح مع لحظ ضرورة وجود صلة بين أي إصلاح يتم إنجازه وبين حدوث تغير اجتماعي سياسي دعمه وواكبه سواء من قبل قوى اجتماعية جديدة أو من قبل بنى إصلاحية جديدة تولد داخل الأحزاب القائمة غير الإصلاحية.
الخلاصة المفتاحية هي أن الإصلاح لن يتحقق بصفقة سياسية أو مراعاة لتوازنات حكم، بل هو فعل سياسي اجتماعي صراعي مركب سلمي قانوني ودستوري.. والمحصلة هي أنه لا عملية إصلاحية من دون وجود أساس اجتماعي تستند إليه وتواكبه.